الرئيسية ثقافة وفنون مَجْموعَة أودَادْنْ : أُسْطُورة أمَازيغية سَاحرة

مَجْموعَة أودَادْنْ : أُسْطُورة أمَازيغية سَاحرة

كتبه كتب في 22 يوليو 2024 - 09:35

بقلم عبد الله بوشطارت باحث واعلامي امازيغي:

في جو ليلي صاخب، أضواء قوية ملونة تنبعث بسرعة البرق، تصعد نحو السماء ثم تتلاشى في الهواء، راسمة لوحات فنية رائعة، توحي بالفرح والبهجة، دخان مصطنع يصعد من الأرض، نحو منصة ضخمة في ساحة عمومية شاسعة، مكتظة بآلاف الجماهير، نساء، شباب، شيوخ، فتيات وفتيان، أطفال…الكل في انتظار وترقب..برهة؛ يسود صمت غريب يعم المكان، دقائق معدودة، ثم تهتز الجماهير بأصوات وأهازيج متنوعة ومتداخلة، كأنه زلزال هز الأرض، فإذا به يظهر سلطان مجموعة أودادن، يضع عمامة كبيرة على رأسه

، ويحمل آلة البانجو، مرتديا جلبابا أنيقا، يتبعه باقي أودادن، يتجهون صوب أمكنتهم، كأنهم خرجوا من بين صخور جبال الأطلس الشاهقة والمانعة، إلى ساحة أسايس…عبدالله الفوى، هادئ كأنه في خشوع الصلاة، يراقب باقي الأعضاء حتى يصطفوا استعدادا، لسفر موسيقي روحي، لا أحد يعلم مداركه ومنتهاه….يعود الصمت إلى الأرجاء، بنقرة سريعة على البانجو، تهتز الأكتاف والأجساد وتعلو الأصوات الصيحات والزغاريد من طرف الجمهور،،، يستمر الهتاف والتهافت، تعيد أنامل عبدالله الفوى تعزف على أوتار البانجو، حتى تتضح معالم النغمات، ويتبعه أصحاب الإيقاع في سمفونية جماعية منظمة، ومرتبة، كانضباط ضباط الصف، وببداهة، وفطرة، يتعرف الجمهور على الأغنية التي سيعزفها الفوى وهو بالكاد لم يتفوه بكلمة، يعزف، وينظر، ثم ينتظر، الجمهور يحفظ أغانيه كلها،

وترسخت في ذاكرته، كما تحفظ النصوص المقدسة في الصدور، وتتناقلها الأجيال…جيل بعد جيل..وبعد ذلك، يتسارع الإيقاع وتتدفق الحنجرة الذهبية لزعيم أودادن بالموال والكلمات، ثم تنطلق عواصف إعصاريه فائقة من المنصة، وتشعل فيها نار الأحاسيس الدافئة والعنيفة بصوت يهز الأمكنة، ويزعزع دواخل الجمهور، وينفذ إلى الدواخل، إلى قلوب الرجال والنساء والشباب، فتيان وفتيات، وتتحرك الأجساد بدون حدود ولا قيود، كأنها تذوب في أمواج البحر العاتية…هكذا ينتج أودادن فوق المنصة، قوة جارفة وخارقة من الاحاسيس بفضل الموسيقى الأمازيغية العميقة التي تذكر بتاريخ الأسلاف، لا أحد يستطيع ايقافها، إلا أنامل سلطان الحب والغزل والجمال، عبدالله الفوى الذي يجذب موريديه إلى حضرة صوفية، إلى ساحة الجذب والوجد، من أجل راحة القلوب، واراحة العواطف، وشحن الأحاسيس، فموسيقى أودادن منذ نشأنها اختارت، أن تجلب الناس إلى معابد الحب والغزل والجمال، أخذت على عاتقها أن تصنع أنغامها وايقاعاتها على تراتيل الحب والسعادة…هل هي واعية أنه من رحم الموسيقى ولد الجمال والحب والغزل…وهل هي تدرك أن الثقافة الأمازيغية رديفة الحياة والسعادة والأمل والحب… بكل تأكيد إنها تدرك ذلك بكل يقين وبدون شك، لأن أودادن مدرسة موسيقية متأثرة بمدرسة تاشتوكت للرايس سعيد أشتوك، وبوبكر أنشاد… وليس مستبعد أن يتم اقتباس تسمية أودادن من قصيدة أنشاد حول أوداد الذي حلف باليمين والشمال أنه اصطاده وأكله في واضحة نهار يوم رمضان…وفي آخر القصيدة عاد ليقول أنه فشل فعلا في صيد ذلك “الأوداد” الجميل المانع الماهر والذكي…الذي يتغنى به كل شعراء الأمازيغ عبر التاريخ يمدحونه، ويتغزلون به لكنهم يفشلون في صيده وادراكه…إن الكتابة عن الفنانين والمبدعين الأمازيغ، بمختلف ضروب فنونهم، يعد أمرا في غاية الصعوبة، فسواء تعلق الأمر بفناني أحواش والشعراء والعازفين، أو تعلق الأمر بالروايس وتيروايسين، أو المجموعات الغنائية الامازيغية المعاصرة المعروفة “بتيروبا”، تواجهنا صعوبات واكراهات معقدة. وذلك لأسباب ذاتية مرتبطة بالفنانين أنفسهم الذين يختارون الصمت في غالب الأحيان ولا يهتمون بتدوين سيرهم الذاتية وتجاربهم الفنية، وأسباب موضوعية مرتبطة بالواقع الذي تعيشه الثقافة واللغة الأمازيغيتين التي تعاني من تهميش سياسي ممنهج، يجعلها على هامش الدولة وخارج مؤسساتها وسياساتها العمومية، بالرغم من كونها اللغة الحية للشعب والمجتمع، وحالة المغرب اللغوية والثقافية هي حالة نادرة وشاذة في العالم، أن تتبنى الدولة رسميا لغةً غير لغة الشعب، أن تخاطب الدولة شعبها بغير اللغة التي يفرح ويغني وينشد بها الشعب أغانيه وأشعاره وأهازيجه…اخترنا الحديث في هذه المقالة عن مجموعة أمازيغية أسطورية تتربع الآن على عرش الأغنية الأمازيغية، صالت وجالت في العالم بأسره، تعزف أنغاما موسيقية أمازيغية وتهز بها مشاعر جمهور واسع وعريض، منقطع النظير في المغرب وخارجه. خطوات أودادن الأولى: من تغجيجت إلى بنسرگاو تعود أصول عبدالله الفوى الذي يترأس المجموعة التي تضم بعض إخوانه أيضا، إلى منطقة تاغجيجت، وبالضبط إلى منطقة تاگموت التي لاتزال أسرته تُعرف هناك ب “إد الفوى”، كما تنحدر من عرش يسمى “إدهمو”. وتاغجيجت تقطنها قبيلة أمازيغية كبيرة توازن بين الترحال والاستقرار بفضل وجود الواحة والماء، وهي قبيلة إد براهيم المعروفة في الصحراء وتجوب مجال واسع وممتد، تمارس الرعي والترحال في مجالات صحراوية شاسعة، وهي سليلة الحلف الصنهاجي الكبير الذي أسس امبراطورية المرابطين وجعلوا من مدينة نول لمطة احدى عواصمهم التجارية والسياسية وهي غير بعيدة عن واحة تاغجيجت، ولا تزال منطقة تاغجيجت تضم بعض الحصون والقلاع والآثار التي كان يستقر أو ينزل بها السلاطين وأمراء إيزناگن/ صنهاجة أثناء حكمهم. والحديث عن أصول رئيس مجموعة أودادن مهم جدا لفهم أسباب نجاحها وتفردها، لأن منطقة تاغجيجت وقبائل أمازيغ الصحراء بشكل عام، تتميز بعمق ثقافي وحضاري زاخر بالتنوع الفني والموسيقي والشعري، فهذه المناطق معروفة بأحواش، الذي يمزج بين الشعر/ تانظامت وبين الايقاعات والدرست، خاصة العواد، أي الناي الذي يعتبر من بين المنابع الأساسية التي يستقي منها الشعراء والروايس ايقاعاتهم والهامهم الموسيقي، فحينما نقول العواد/ الناي فإننا نتحدث هنا عن موسيقى الرعاة الرحل، الذي يعزفون الأنغام في الصحاري والبراري ويتحاورن مع الطبيعة ويصنعون الخيال الموسيقي والابداعي الذي يتميز بكثافة الايقاعات والانغام الجميلة. وجل الروايس الأمازيغ الذين كانت لهم شهرة واسعة في تاريخ “تيرويسا” وشعراء أسايس تعلموا أمزاد/ الرباب وآلة لوتار عن طريق تمكنهم من عزف الناي وممارستهم الرعي في مرحلة الطفولة. ” تعلمت العزف منذ الصغر، منذ سنوات الرعي، صنعت لوتار وبدأت التعلم به”. (الرايس المهدي بت مبارك في ذاكرة الموسيقى الأمازيغية).ويبدو أن فنون أحواش المنتشرة في واحة تاغجيجيت وأحوازها، تأثر بها الفنان الفوى وإن لم تظهر بشكل مباشر، وإنما هي بنيات ثقافية لها امتدادات بالرغم من الهجرة المبكرة لأسرة الفوى إلى ضواحي أگادير، فهذه المناطق تمتاز بوجود الدرست والتييت أو الشعر الحر في أحواش، لاسيما أن الفوى ينتمي إلى تاگموت التي ينتشر فيها نوع من الرقص يسمى “تاحواشت ن تارحالت” الذي يمارسه الرعاة الرحل وهو مبني على قوة الكلمة الشعرية وحركة الجسد، وشعر “تارحالت” زاخر بتيمة الحب والتغزل بالجمال، وتوجد أشعار خالدة قديمة تتوارثها الأجيال في الصحراء، وليس من المستبعد أن ينهل منها رئيس أودادن ويوظف بعضها داخل أسلوبه الغنائي العصري، دون أن ننسى ان من نفس الفضاء الجغرافي والثقافي تقريبا خرج الفنان المرحوم محمد أباعمران ( ايت رخا) وكذلك الفنانة المقتدرة فاطمة تابعمرانت ( إفران). هاجر والد الفوى مبكرا إلى ضواحي مدينة أگادير وبالضبط إلى حي بنسرگاو واسمه “محمد بن محمد بن الحبيب الفوى”، واشتغل في معمل ZARABA، إلى أن حصل فيه على التقاعد، وبحي بنسرگاو ولد ونشأ عبدالله الفوى وباقي اخوته. بدأت خطواته الفنية الأولى من الحي والدرب، وانطلق من الصفر كباقي الفنانين خلال جيل السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، في بداية شبابه امتهن اصلاح السيارات وصباغتها مثل جميع أقرانه، وانتقل إلى الصحراء بعد المسرة الخضراء واشتغل هناك مدة قصيرة ثم عاد إلى بنسرگاو، لكن عالم الموسيقى والابداع استهواه، تعلم العزف على الآلات المتوفرة آنذاك كالبندير/ تالونت ثم العزف على البانجو بطرق تقليدية، وحسب روايات شفوية استقيناها من بعض الفنانين الذين بدأوا مسارهم الفني خلال تلك الفترة، فإن عبدالله الفوى ظهر لأول مرة مع مجموعة موسيقية ظهرت في حي “بنسرگاو” تسمى مجموعة “تامونت”، وكانت مجموعة موسيقية تعزف على البانجو وتالونت والطامطام، كباقي المجموعات التي ظهرت خلال السبعينيات، وكان عبدالله الفوى يعزف على البندير/ تالونت مع هذه المجموعة، وبعد ذلك استمروا في المشاركة في السهرات والحفلات الخاصة والأعراس وغيرها، كمجموعة من الشباب الذين يجمعهم القرب والسكن في نفس الحي. بعد خروج عبدالله الفوى من “تامونت” التقى مع “محمد جمومخ” أحد المؤسسين لمجموعة أودان وكان له دور بارز في النشأة والمسار والبناء، وهو أيضا أي “جمومخ” كان ضمن مجموعة محلية في بنسرگاو تسمى “لاجدود”، ثم التحق بهم “أحمد الفوى” أخ عبدالله الذي كان هو الآخر عضوا ضمن مجموعة تسمى “إبارازن”، ثم التحق بهم “حسن أعطور” رحمه الله الذي كان هو الآخر ضمن مجموعة أخرى في بنسرگاو تسمى “إمزواگن” كان يعزف على البانجو ويغني أيضا، وبعد ذلك التحق بهؤلاء الفنان “العربي أمهال”، وأسسوا مجموعة موسيقية تتكون من خمسة أعضاء وهم المؤسسون الحقيقيون لإودادن، أطلقوا على أنفسهم التسمية الأولى وهي “أدجران” فيما بين سنتي 1977 و1978، وكانت أعمار أعضاء المجموعة آنذاك تتراوح بين 18 و 25 سنة( حسب شهادة عضو مؤسس للمجموعة وهو محمد جمومخ). لم تستمر تسمية “أدجارن” وقتا طويلا فكانت لحظة عابرة وقنطرة صغيرة نحو الأفق الجديد، لأنها لم ترق “لعبدالله الفوى” الذي اقترح تسمية جديدة وهي أ”ودادن”. للإشارة فقد كانت مجموعة أخرى سابقة عن أودادن في بنسرگاو تسمى “إزنگاض”، فبدأت المجموعة في تنشيط والمشاركة في الأعراس والأمسيات الخاصة وسهرات الأحياء، وكانت تغني بعض الأغاني الشعبية المشهورة آنذاك المتميزة بالبساطة والتي يمكن تسميتها بالخالدات في فن الشعبي الأمازيغي، مثل أغاني الشاعرة “تارخوت” التي غنى أشعارها الفنان عبدالعزيز الشامخ، وهي أغاني شعبية غزلية أضافت لها مجموعة أودادن بعض التحسينات والايقاعات السريعة، مثل ” أمزاتيي أدور ضرغ…، ماداوا گيتي تنيت أمحمد ن عمتي تيدينو زوند أغانيم أزار ادرض أر أكال، والْن اينو زوند الكيسان إمينو زود الربوع أفوس أفردو واتاي أضار القالب ن السكر..”.

في بنسرگاو اختمرت الخلفية الفنية الصحراوية لمجموعة “أدوادن” في مرحلة النشأة بايقاعات أخرى التي تشكلت بفعل الهجرة القروية الكثيفة نحو ضواحي المدن، فكان عامل الهجرة حاسما في انسجام الايقاعات وتنوعها فأعضاء المجموعة ينحدرون من أصول مختلفة، تاغجيجت وتامراغت والمزار وأشتوكن، وانصهرت الايقاعات والأنغام، خاصة الإيقاع الهوراي الذي تأثرت به المجموعة لأسباب كثيرة أهمها القرابة العائلية والحي الذي يضم تشكيلات اجتماعية وثقافية مختلفة، لأن الحي أو الدرب أو الحومة كانت تعيش في سنوات ما بعد الاستقلال، ارهاصات هوية/ تعبيرات ثقافية جديدة قيد التشكل في ضواحي بعض المدن الصناعية كما هو حاصل في الحي المحمدي بالدار البيضاء الذي اشتهر بصناعة فنية وموسيقية مميزة عرفت بظاهرة الغيوان، والدشيرة في أكادير التي كانت منارة ومشتلا للروايس، ثم لظاهرة تازنزارت، إضافة إلى الإيقاع الهواري السريع الذي كان يتناسب مع عنفوان موسيقى الشباب آنذاك وقد جربت “أودادن” تسجيل بعض الأغاني هوارية لكنها لم تستمر. وقد تأثرت مجموعة “أودادن” في بداياتها الأولى بالنمط الموسيقي الشعبي المشهور في المزار، فهو نمط موسيقي أمازيغي يتميز بسرعة الإيقاع، وهناك انبثقت مجموعة أخرى عاصرت سياق ظهور “أودادن” وهي مجموعة “آيت العاتي” التي تتقاسم مع أودادن نفس الأسلوب الغنائي. في تلك المرحلة أي بداية الثمانينيات كانت “أودادن” في سفر موسيقي دائم للبحث عن الهوية والأسلوب والتميز…لأنها كانت مرحلة التجريب وصقل المواهب والبحث عن الفرادة، ولو أنها كانت تتحرك في فضاءات محلية وتغني في الأعراس والمواسم الدينية وغيرها، فهي لم تنتقل بعد إلى مرحلة الاحتراف، فمن سنة 1980 إلى 85 كانت أودادن تبحث عن نفسها تبحث عن حقيقة وجودها، وساعدتها ظروف كثيرة، قادتها إلى المجد والشهرة، أولها عبقرية أعضائها خاصة عبدالله الفوى، ثم لمسة المرحوم حسن أعطور الذي أحدث ثورة فنية داخل المجموعة قادتها إلى تسجيل ألبومها الأول سنة 1985 وولجت به مجموعة أدوادن أبواب الاحتراف والتألق والشهرة، بمساعدة المرحوم “عمر المعاريف” صاحب الشركة التي قامت بتسجيل أول ألبوم أودادن، وقد قام صاحب الشركة المرحوم “عمر المعاريف” بعمل جبار من أجل إقناع أعضاء المجموعة لتسجيل الألبوم وساعدهم تقنيا ولوجيستيكيا من أجل التسجيل لما لاحظه من آفاق النجاح التجاري والموسيقي في ذلك، نظرا للأسلوب الغنائي الجديد آنذاك الذي كانت تتميز به أودادن، والتي كانت أشرطتها تباع في سوق انزگان بكثافة لكنها يتم تسجيلها بطرق تقليدية جدا أثناء السهرات والأعراس.

الفوى وأعطور: ثورة داخل التجديد

لفهم ظاهرة أودادن التي انفجرت في عقد الثمانينيات من القرن الماضي، لابد من فهم السياق الذي أفرز هذه التجربة الموسيقية التي قلنا أنها بدأت في حي بنسرگاو المهمش بضاحية أگادير، وصنعت مجدا خارقا في مسارها الطويل، فهذا السياق هو عقد السبعينيات الذي شهد هو الآخر انفجارا موسيقيا في تاريخ الفن الأمازيغي، ببروز نمط جديد في الساحة الفنية ينافس نمط الروايس،/ تيرويسا والذي كان مهيمنا في المجتمع السوسي من الصحراء إلى دمنات إلى تازناخت ثم إلى ايحاحان مرورا بأحواز إمي نتاونوت ونسجيها القبلي، فكانت عاصمة الروايس في البداية هي مراكش بفضل وجود الباشا الگلاوي الحاكم الأمازيغي الذي يعشق فن الروايس، والذي ساهم بشكل كبير في تطوير مدارس تيرويسا، منذ الحاج بلعيد إلى أموراك، ومن مراكش ظهرت مدارس تيرويسا في الدارالبيضاء ثم برزت مدارس أخرى في الدشيرة التي أصبحت فضاء مستقطبا للروايس وتيرويسا بعد انهيار مجد الباشا الگلاوي الذي حاربته أوساط سلفية محسوبة على الحركة الوطنية.

وكان عقد الستينيات هو عقد الروايس، الذين يهيمنون على الساحة الفنية مثل أمنتاگ وألبنسير وغيرهم. ومع حلول عقد السبعينيات وصلت إلى سوس موجة أخرى، بأسلوب جديد، هي موجة المجموعات الموسيقية الأمازيغية، التي قامت بتجديد بنيوي في مدارس تيرويسا، بإدخال آلة البانجو والسنتير إلى الآلات الموسيقية إضافة إلى البندير/ تالونت، والناقوس التي كان الروايس يستعملونها في أغانيهم وألحانهم.في هذا السياق ظهرت مجموعات في الدشيرة وانزکان والمزار، بداية بمجموعة تابغاينوست في الدشيرة، ومجموعة تيتار، وإيموريگن، ومجموعة تاوادا، ولاقدام في تاراست، وازنزارن في انزکان والدشيرة، قبل أن تنقسم إلى مجموعة عبدالهادي والشامخ، ، ومجموعة “إيزمازن” ثم مجموعة أوسمان بالرباط والتي كان لها أسلوبا جديدا مغايرا لما هو في سوس، ثم ظهرت مجموعة أرشاش في الدارالبيضاء يقودها شاعر كبير وهو مولاي علي شوهاد، وأضافوا لمسة فنية وموسيقية لهذه المجموعات لأنها تنهل من ايقاعات أحواش ايسافن وابركاك وتعتمد على قوة الكلمة الملتزمة والهادفة والرمزية، على شاكلة مجموعة ازنزارن. ظهرت مجموعات عديدة، أغلبها اختفى لأسباب كثيرة، لكن ما ميز مجموعات السبعينيات هي أنها تسير في نفس المنحى الذي اتجهت فيه مجموعات أخرى في الدارالبيضاء، وخاصة ظاهرة الغيوان، التي كانت تستجيب لسياق السبعينيات الذي عاش فيه المغرب أوضاعا سياسية وصعبة، انعكست على الفن في انتاج نمط موسيقي يتماشى مع السياق الداخلي والدولي، في انتاج أنماط موسيقية وفنية ملتزمة تدعو إلى الثورة وتوعية الشعب بحقوقه ومسؤوليته في النهوض لتغيير الوضع. فكانت كل المجموعات الغنائية التي ظهرت خلال عقد السبعينيات تنهل من نفس الأفكار والتيمات وتشتغل على نفس المواضيع السياسية والملتزمة.

وكانت مدرسة تازنزارت هي المهيمنة والأكثر شيوعا وشهرة في سوس وخارجه، بألحان راقية وكلمات ملتزمة مشحونة برسائل سياسية وثورية، ومتخمة بالرمزية، تنتقد الوضع السياسي والاجتماعي وتطمح إلى التغيير عن طريق الموسيقى، وساهمت موهبة عبدالهادي إيگوت في العزف على البانجو وألحانه العذبة وصوته القوي في الارتقاء بالأغنية الأمازيغية إلى مستويات عالية جدا، ونافس بشدة ظاهرة الغيوان التي يبدو أنه تفوق عليها في الألحان والعزف والأداء… مع نهاية السبعينيات، بدأت ملامح نمط موسيقي جديد يظهر في الأفق مع مجموعات موسيقية في الأحياء الهامشية والضواحي، ولكنها تركز على أغاني الشعبي والغزل والحب دون أن تهتم بما هو ملتزم، أو سياسي واجتماعي وثوري، تغني من أجل الفرح والسعادة والحب، وفي غضون ذلك، كما أشرنا أعلاه، ظهرت مجموعة أودادن بعد عملية تجميع أعضاء كانوا ينتمون إلى مجموعات موسيقية أخرى في حي بنسرگاو.

فقد توفقت كثيرا في ملئ الفراغ داخل الساحة فيما يخص أغاني الحب والعشق والغزل.لكن ما ميز مجموعة أودان عن غيرها وعن من سبقها من المجموعات هو التجديد الذي أضافته إلى مدارس “تاگروبيت”، ليس فقط في تغيير المواضيع وإنما في الأسلوب والايقاع الموسيقي، وذلك بإدخال آلة الگيتار، Guitare Électrique إلى الآلات التي تستعملها المجموعات الموسيقية إلى جانب آلة البانجو، فحين انضم الفنان “المرحوم حسن أعطور” إلى مجموعة أودان أعطى لها نفسا موسيقيا جديدا وجذابا، لأن المرحوم أعطور كان من بين الأوائل الذي يعزفون على هذه الآلة آنذاك وبإتقان كبير، بالرغم من كونه كان عضوا في مجموعة إمزواگن التي كان يعزف فيها على البانجو كما كان يقوم بالأداء الغنائي، وكان عازفا مهارا وموهوبا، بل كان المثقف الوحيد ضمن المجموعة، لأنه هو الوحيد الذي حصل على شهادة الباكالوريا في تخصص الآداب الإسباني، وكان يمارس الموسيقى كإبداع وموهبة ومعرفة، وأيضا كباحث يتعمق في البحث الموسيقي وفي الأمور التقنية والصوتيات، وحين التحق بمجموعة “أودادن” أفادهم كثيرا، فنيا وموسيقيا وتقنيا.وبسرعة انسجم عبدالله الفوى الذي يعزف على البانجو مع أعطور العازف على الگيتارة، كما حصل انسجام كبير بين أحمد الفوى في تالونت ومحمد جمومخ في الطامطام، والعربي أمهال في الناقوس، هذا التكامل الموسيقي في الايقاعات والألحان هو الذي صنع تميز وفرادة أودادن وسرعة انتشارهم، منذ تسجيل أول ألبوم سنة 1985 ثم ظهورهم على شاشة التلفزة المغربية سنة 1986 أثناء مشاركتهم في سهرات الأقاليم التي كانت تبث على التلفزة، وشاركت أودادن في سهرة مدينة تيزنيت التي كان أدائها فيها مبهرا شد انتباه المغاربة قاطبة بأسلوبها الغنائي الأمازيغي السريع والمتناغم والجميل. أشرنا هنا إلى دور الفنان المرحوم “حسن أعطور” عرفانا له واعترافا لما قدمه لمجموعة أودادن وللموسيقى الأمازيغية، ونفس الشيء ينطبق على جميع الأعضاء المؤسسين لهذه التجربة الموسيقية الفريدة، لأن الفن والموسيقى هو مجهود وعمل جماعي مشترك، يشارك فيه الجميع، بالرغم من كون أن عبدالله الفوى هو رئيس المجموعة، إلا أن ذلك لا يجب أن يخفي موهبة وابداع ومجهودات الآخرين…

فانطلقت شهرة أودادن…في كل الآفاق، لأن الجمهور الأمازيغي كان متعطشا لأسلوب أودادن الذي يرون فيه استمرارا للرمزية الشعرية الأمازيغية في الغزل والحب والجمال والسعادة التي اشتهر بها الرايس ألبنسير وسعيد أشتوك وآخرون…

أودادن العالمية: استمرارية السحر

بعد تسجيل أودادن للألبوم الأول، ” ماداغ ايسلان ايزنگاض”، وبعد مرورها في التلفزة، طافت شهرة المجموعة في المغرب وخارجه، وشاركت في سهرات كثيرة، في كل من الدارالبيضاء، وبني ملال وأكادير والرباط، وسلا، ومراكش وغيرها من المدن المغربية. وانتقلت إلى خارج المغرب بدءا بمشاركتها في مهرجان تونس، وفي سنة 1988 تلقت المجموعة دعوة للمشاركة في سهرات تجوب دول أوروبية وهي فرنسا وبلجيكا وهولاندا، ثم تلتها جولات أخرى في أمريكا سنة 1998 والبرازيل، ثم شاركت في مسابقة موسيقية في فرنسا شاركت فيها 400 مجموعة موسيقية عبر العالم، واحتلت فيها أودادن الرتبة الثالثة بعد فرقة موسيقية من اسبانيا وأخرى من الهند، وذلك سنة 2005. وطافت مجموعة أودادن بالموسيقى الأمازيغية مختلف بلدان المعمور في إفريقيا بمشاركتها في مهرجان مالي سنة 2007، ورحلت إلى تانزانيا، وأندونيسيا وغيرها، كما شاركت في أمسيات عديدة في بلدان أوربية خاصة فرنسا وبلجيكا..

من بين أسرار نجاح أودادن واعتلائها اليوم عرش الأغنية الأمازيغية هو الاستمرارية في الإنتاج وغزارته، فمنذ طرحها للألبوم الأول سنة 85 فإن المجموعة حرصت دائما على طرح جديدها في الساحة الفنية تقريبا كل سنة، كانت تنتج ألبوما واحدا خلال كل عام، إضافة إلى حضورها الدائم والمستمر في مختلف المهرجانات والمناسبات والأعراس والأحداث الفنية، فالمجموعة لم تتأثر بانسحاب أو مغادرة بعض أعضائها، فقد ظل رئيسها عبدالله الفوى حريصا على الاستمرارية بالرغم من تغيير بعض أعضاء المجموعة، لأسباب وظروف مختلفة، فقوة الصمود والإنتاج الغزير ومقاومة التغيرات والتحولات والصراعات الداخلية هي التي جعلت أودادن تحافظ على أسلوبها واستمراريتها في الساحة.

فمختلف المجموعات الموسيقية تعرضت لهزات وانشقاقات داخلية تأثرت بها بشكل من الأشكال، إلا مجموعة أودادن حافظت على وحدتها ونجحت في تطوير أسلوبها الغنائي ونسقها الموسيقي….إن أسلوب أودادن الغنائي، نابع بلا شك، من التراث الفني الامازيغي الذي ينشد الحب والسعادة والمبني على التغزل بشكل رمزي، وقد نجحوا بالفعل في ملامسة الشعور الموسيقي الدفين لدى الامازيغ في سوس، وقد تفطنوا لذلك، فيما حققه كل من الرايس محمد ألبنسير والرايس سعيد أستوك الذي أسس مدرسة فنية داخل تيرويسا، وأحدث ثورة في التمرد على المجتمع المحافظ الذي كان يفرض قيودا دينية وثقافية على الشعر الغزلي، أو النظم حول تايري، أو أمارگ/ العشق، مستفيدا هو الآخر من فنون أجماك الغنية بالإيقاعات والألحان الموسيقية المتنوعة.فعبدالله الفوى يستقي كلماته من شعراء كبار من بينهم سعيد أشتوك، مثل أغنية “أياتبير إيگان أزروال”، ومن بوبكر أنشاد، ومن الشاعر والرايس حماد أوتمراغت والشاعر بانضاج، وصالح الباشا، وغيرهم من الشعراء، ولكن قوة “عبدالله الفوى” لا تتجلى فقط في أخذ الكلمات وإنما في الاقتباس والتركيب وإعادة ترتيب الكلمات وتوظيفها بشكل جيد وراقي في قالب موسيقي موزون وبلحن جميل وجذاب ومتوازن يتناغم مع الموضوع ومع الغرض الشعري، ثم مع وثيرة الصوت. لأن سحر الفوى يكمن في هذا التراكب التوظيفي للكلمات والألحان والموال في قالب موسيقي متكامل. فالأداء عند عبدالله الفوى داخل مجموعة أودادن، هو أداء تتكامل فيه جميع شروط الابداع الموسيقي، فهو يجدد باستمرار داخل نسق تاگروبيت الذي يظهر أنه استنفذ مهامه، لكن مع مجموعة أودادن التي تجاوز عمر أعضائها 60 سنة، فإنهم يستقطبون آلاف الشباب والمراهقين في صفوف النساء والذكور، ويتراقصون بأغانيهم وتزدهر أجسادهم وتتحرك بأنغام أودادن، فذلك ما نسميه بالسحر الأسطوري الذي يتدفق من هذه المجموعة الغنائية الفريدة التي لاتزال في قمة العطاء والابداع لما يزيد عن 40 سنة…فنحن كأمازيغ، كشعب مر من قساوة الظروف التاريخية، جعلت لغتنا تقاوم لمدة قرون طويلة، من أجل البقاء والصمود، لنا أن نفتخر بمجموعة أودادن وبكل المجموعات الغنائية وبكل الشعراء والشاعرات والمبدعين والمبدعات … فلو لا هؤلاء…لضاعت اللغة والثقافة والحضارة الأمازيغية,,,

عبدالله بوشطارت باحث واعلامي امازيغي الرباط:20يوليوز2024

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *